الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} قوله تعالى{بعضهم أولياء بعض} أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين }بعضهم من بعض} لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم. قوله تعالى{يأمرون بالمعروف} أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. }وينهون عن المنكر} عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة }المائدة} و}آل عمران} والحمد لله. قوله تعالى{ويقيمون الصلاة} تقدم في أول }البقرة} القول فيه. وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض. قوله تعالى{ويطيعون الله} في الفرائض }ورسوله} فيما سن لهم. والسين في قوله{سيرحمهم الله} مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز. {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} قوله تعالى{وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات} أي بساتين }تجري من تحتها الأنهار} أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في }البقرة} أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. }خالدين فيها ومساكن طيبة} قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. }في جنات عدن} أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني{جنات عدن} هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. }ورضوان من الله أكبر} أي أكبر من ذلك. }ذلك هو الفوز العظيم}. {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} قوله تعالى{يا أيها النبي جاهد الكفار} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين. قوله تعالى{واغلظ عليهم} الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال{إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها). ومنه قوله تعالى {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} قوله تعالى{يحلفون بالله ما قالوا} روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل{وهموا بما لم ينالوا}. قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، }وهموا بما لم ينالوا}. وقيل: إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي. قوله تعالى{ولقد قالوا كلمة الكفر} قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل{كلمة الكفر} قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبدالله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. }وكفروا بعد إسلامهم} أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى قوله تعالى{وهموا بما لم ينالوا} يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قوله تعالى{وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة: ويقال: نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر: وقال زهير: ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور: اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، }وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}. قوله تعالى{فإن يتوبوا يكن خيرا لهم} روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية. والله أعلم. قوله تعالى{وإن يتولوا} أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة }يعذبهم الله عذابا أليما} في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. }وما لهم في الأرض من ولي} أي مانع يمنعهم }ولا نصير} أي معين. وقد تقدم. {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} قوله تعالى{ومنهم من عاهد الله} قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت. قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير. قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله }فأعقبهم نفاقا} يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى{إلى يوم يلقونه} على ما يأتي. قال علماؤنا: لما قال الله تعالى{ومنهم من عاهد الله} احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و}من} رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم. العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الإيمان والكفر. قلت: وحجة القول الثاني ما إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك. قلت: ومن هذا المعنى قوله تعالى{لئن آتانا من فضله لنصدقن} دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما قوله تعالى{فلما آتاهم من فضله} أي أعطاهم. }بخلوا به} أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في }آل عمران}. }وتولوا} أي عن طاعة الله. }وهم معرضون} أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه. {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} قوله تعالى{فأعقبهم نفاقا} مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال{بخلوا به}. }إلى يوم يلقونه} في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال: أنت تلقي غدا عملك. وقيل{إلى يوم يلقونه} أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ قوله تعالى{نفاقا} النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. قوله تعالى{ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم. {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} قوله تعالى{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة{يلمزون} يعيبون. قال: وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات}. وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل }والذين لا يجدون إلا جهدهم} الآية. {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله تعالى{استغفر لهم} يأتي بيانه عند قوله تعالى {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} قوله تعالى{فرح المخلفون بمقعدهم} أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس. وأقعده غيره؛ عن الجوهري. والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك. }خلاف رسول الله} مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ }خلف رسول الله} أراد التأخر عن الجهاد. }وقالوا لا تنفروا في الحر} أي قال بعضهم لبعض ذلك. }قل نار جهنم} قل لهم يا محمد نار جهنم. }أشد حرا لو كانوا يفقهون} ابتداء وخبر. }حرا} نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار. {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} قوله تعالى{فليضحكوا قليلا} أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن{فليضحكوا قليلا} في الدنيا }وليبكوا كثيرا} في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. }جزاء} مفعول من أجله؛ أي للجزاء. من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} قوله تعالى{فإن رجعك الله إلى طائفة منهم} أي المنافقين. وإنما قال{إلى طائفة} لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. }فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا} أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في }سورة الفتح} {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} إن قال قائل فكيف قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث. وجاء: في أربع. وقد تقدم في البقرة. فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى قلت: ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى قوله تعالى{استغفر لهم} الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري: ولم يثبت ما يروي أنه قال: (لأزيدن على السبعين). قلت: وهذا خلاف واختلف العلماء في تأويل قوله{استغفر لهم} هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى قوله تعالى واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل: إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل: إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والأول أصح؛ لما قال تعالى{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى{إنهم كفروا بالله ورسوله} فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين: كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة: يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي: ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد: ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما قوله تعالى{ولا تقم على قبره} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه (1) {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه. {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون. فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان. و}أن} في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا. و}الطول} الغني؛ وقد تقدم. وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور. }وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} أي العاجزين عن الخروج. {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} قوله تعالى{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} }الخوالف} جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال. وقد يقال للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم. يقال: فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس: وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين{وأولئك لهم الخيرات} قيل: النساء الحسان؛ عن الحسن. دليله قوله عز وجل {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} قوله تعالى{وجاء المعذرون من الأعراب} قرأ الأعرج والضحاك }المعْذِرون} مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقرأ }وجاء المعْذرون} مخففة، من أعذر. ويقول: والله لهكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما }المعذرون} بالتشديد ففيه قولان: أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا. فيكون }المعذرون} على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري: فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره: يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين. كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس: قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس: وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب: من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال{وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} والمراد بكذبهم قولهم: إنا مؤمنون. و}ليؤذن} نصب بلام كي. {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم} قوله تعالى{ليس على الضعفاء} الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى قوله تعالى{إذا نصحوا} النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. قوله تعالى{ما على المحسنين من سبيل} }من سبيل} في موضع رفع اسم }ما} أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها. {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} قوله تعالى{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل: نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم. بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ }تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل: بل هو عبدالله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر. قالوا: يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال{لا أجد ما أحملكم عليه} فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن: قلت: وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا: إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم. قوله تعالى{وأعينهم تفيض من الدمع} ما يستدل به على قرائن الأحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد. فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام وسيأتي هذا المعنى في }يوسف} مستوفى إن شاء الله تعالى. {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} قوله تعالى{إنما السبيل} أي العقوبة والمأثم. }على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} والمراد المنافقون. كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم. {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} قوله تعالى{يعتذرون إليكم} يعني المنافقين. }لن نؤمن لكم} أي لن نصدقكم. }قد نبأنا الله من أخباركم} أي أخبرنا بسرائركم. }وسيرى الله عملكم} فيما تستأنفون. }ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} أي يجازيكم بعملكم. وقد مضى هذا كله مستوفى. {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} قوله تعالى{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. }لتعرضوا عنهم} أي لتصفحوا عن لومهم. وقال ابن عباس: أي لا تكلموهم. {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه. {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم} لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب؛ فقال كفرهم أشد. قال قتادة: لأنهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل: لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم{وأجدر} أي أخلق. }ألا يعلموا} }أن} في موضع نصب بحذف الباء؛ تقول: أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ }أن} وإن أتيت بالباء صلح بـ }أن} وغيره؛ تقول: أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت: أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع }أن} لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. }حدود ما أنزل الله} أي فرائض الشرع. وقيل: حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم. ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة: أولها: لا حق لهم في الفيء والغنيمة؛ وثانيها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة؛ لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا؛ وهو الصحيح لما بيناه في }البقرة}. وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة: أحدها: بالكفر والنفاق. والثاني: بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر. والثالث: بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في }النساء}. وثالثها: أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي. وقال مالك: لا يؤم وإن كان أقرأهم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي: الصلاة خلف الأعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة. قوله تعالى{أشد} أصله أشدد؛ وقد تقدم. }كفرا} نصب على البيان. }ونفاقا} عطف عليه. }وأجدر} عطف على أشد، ومعناه أخلق؛ يقال: فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون. وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله: هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. }ألا يعلموا} أي بألا يعلموا. والعرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط؛ وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به؛ كقولك: ليل لائل. وربما قالوا: العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم. والعُرب والعَرب واحد؛ مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب؛ قال الشاعر: إنما صغرهم تعظيما؛ كما قال: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري. وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب. والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها. {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم} قوله تعالى{ومن الأعراب من يتخذ} }من} في موضع رفع بالابتداء. }ما ينفق مغرما} مفعولان؛ والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم. }مغرما} معناه غرما وخسرانا؛ وأصله لزوم الشيء؛ ومنه {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} قوله تعالى{ومن الأعراب من يؤمن بالله} أي صدق. والمراد بنو مقرن من مزينة؛ ذكره المهدوي. }قربات} جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات؛ حكاه النحاس. والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى؛ تقول منه: قربت لله قربانا. والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات، وللكثير قرب. وكذلك جمع كل ما كان على فعلة؛ مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن؛ حكاه الجوهري. وقرأ نافع في رواية ورش }قربة} بضم الراء وهي الأصل. والباقون بسكونها تخفيفا؛ مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ }ألا إنها قربة لهم}. ومعنى }وصلوات الرسول} استغفاره ودعاؤه. والصلاة تقع على ضروب؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة؛ قال الله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ }والأنصار} رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما. والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار. نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقال الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم. وأما أفضلهم فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان: خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال: أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبدالله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس. وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر. والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة. لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدليل عليه قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته. والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف. قرأ عمر }والأنصارُ} رفعا. }الذين} بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا؛ فرجع إليه عمر وقال: ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل: إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب؛ فقيل له: فعلقمة والأسود. فقال: سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود. وعنه أيضا أنه قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضا: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم؛ وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء. وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال: طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي السميط، وبكير بن عبدالله الأشج. وذكر غيرهم قال: وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين. وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان، لقي عبدالله بن عمر وأنسا. وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبدالرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب، والأحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله جل وعز
|